2019/12/16
التحكيم.. نظام قبلي يمني يحل الخلافات بالمال وذبح الماشية

رغم ملامح المدنية التي يتمتع بها المجتمع اليمني، إلا أن القبيلة ما تزال قادرة على تسيير شؤون الأفراد، فغالبية هؤلاء ولاسيما أبناء المحافظات الشمالية ينتمون لقبائل يلجئون إليها حال لم تنصفهم الدولة أو تعرضوا للظلم، أو وقعوا في المشاكل.

أشهر القبائل في اليمن حاشد وبكيل ومذحج وهمدان في المناطق الشمالية وقحطان والزرانيق في المناطق التهاميه ويافع وردفان في المناطق الجنوبية وكنده والحموم في حضرموت وغيرها من القبائل المنتشرة على طول وعرض البلاد.

وشيخ القبيلة هو أعلى الهرم في الترتيب القبلي، ولا يوجد تسلسل هرمي للمشائخ وانما يوجد مشائخ بارزون يحصدون مكانتهم عبر اهتمامهم بمصالح الأفراد وحل مشاكلهم في نطاق القبيلة وخارجها دون الرجوع الى سلطات الدولة، عبر ما يعرف بالتحكيم القبلي وهو اللجوء للأعراف القبلية لحل النزاعات والخلافات، بما فيها قضايا القتل.

فإذا وقعت جريمة قتل عن طريق العمد أو الخطأ يتدخل كبار المشائخ بين الطرفين لمنع وقوع قتلى جدد، وتقوم قبيلة القاتل بإرسال وسطاء لقبيلة المقتول، لتحديد موعد لقدوم رجال القبلتين إلى مساحة تتوسط موقع القبليتين، ويعين شيخ قبيلة المقتول محكماً، والمحكم هو الشخص الذي يتولى النطق بالحكم القبلي على الطرف المعتدي في جلسة التحكيم القبلي.

تحضر قبيلة القاتل بدونه، حاملين أسلحتهم وتتقدمهم ثيرانهم، إلى الساحة في حين تكون قبيلة المقتول في انتظارهم، وما أن يصلوا يضعوا أسلحتهم على الأرض، أمام أفراد قبيلة المقتول، كنوع من إبداء حسن النوايا، وينشدون ما يعرف بالزامل وهو واحد من الفنون الشعرية الارتجالية، وتتلى أبياته فيما يشبه الأعتذار، وبأنهم محكمين أي راضين بالحكم الذي سينطق به الطرف الآخر.

يقول الشيخ باشا العطيه احد كبار مشائخ قبائل الجوف شمال صنعاء:"يطلب في الزامل من قبيلة المقتول أن تقول حكمها، والأخيرة ترد بزامل مماثل".

تبدأ حينها جلسة حكم قضائية لكن بالأعراف القبلية، فالجميع يترقب اللحظة الفارقة التي ينطق بها شيخ قبيلة المقتول بالحكم، والذي يتشاور مع أقرباء المقتول في قبيلته.

ويندر أن تُذبح الماشية التي يصطحبها ذوي قبيلة القاتل معهم ، إذ يقول طرف قبيلة المقتول:"مقبول مرجوع"، بمعنى أنهم قبلوا ما قدمته قبيلة القاتل لكنهم لا يريدون ذبحه لتعود الماشية مع مقدميها، أو أن يقال :"مقبول مذبوح"، وهذه تعني أن يذبح ما قدم من ماشية.

وعادة ما يولم على الذبيحة ويتناول جيمع أفراد الأطراف المتنازعة لحومها، كنوع من قبول التحكيم.

ويعتبر عدم استقبال قبيلة المقتول لقبيلة القاتل في الساحة، رفضاً للتحكيم، ما يعني أنهم ينون أخذ قاتل أحد أفرادهم بمن قتله، كما يحدث ان يكون الحكم بأنهم يرفضون التنازل ويطالبون بتسليم القاتل لهم للاقتصاص منه، وتختلف الاحكام من قبيله لأخرى وليس امام من يصدر ضدهم الحكم الا القبول وتنفيذ الحكم مهما كان.

ويقول العطيه :"بعض القبائل تحدد عند النطق بالحكم بانه حكم مطلق أو قابل للتفاوض بخاصة أن كان الحكم مبالغ فيه".

ويضيف الشيخ العطية أن قبائل الجوف تحكم بالديه التي هي مبلغ مالي يقدر بخمسة مليون ريال أي ما يعادل 25000$ وذبح ثور، فيما قبائل في محافظة مأرب تحكم بما يسمى "المحدش" وهو حكم مضاعف احدى عشر مره فاذا حكم الشيخ بمليون محدش فيتم دفع 11 مليون، أما إذا حكم وقال "محدش مربع" فيكون الحكم 44 مليون، وإذا قال محدش مثمن فالحكم يكون 88 مليون.

يحدد المُحكم في حكمه سقف زمني لتنفيذ الحكم، بما يتناسب والحكم، وعلى الفور تبدأ إجراءات التنفيذ، ولا يمكن لقبيلة القاتل التأخر في التنفيذ، لأن ذلك يعتبر عيباً في حقهم، لكن يمكنهم التفاوض حتى الوصول إلى حكم يتفق عليه الطرفين في تلك الجلسة.

ما أن يتم الاتفاق على الحكم، تستعيد قبائل القاتل أسلحتهم ويغادرون مساحة التحكيم.

وقد يرفض التحكيم جملة وتفصيلاً لعدم عمل الطرف المحكم به، ومؤخراً رفض ذوي الشابين حسن أمان وخالد الخطيب وهما من أبناء محافظة عدن الجنوبية حيث لا يعمل بالتحكيم، ويتم اللجوء للقضاء التحكيم القبلي حين قدم الجناة عشرات القطع من السلاح لهم، للجلوس للتحكيم في قتل مرافقي أحد الشيوخ في 30 مايو 2013 الشابين لتجاوزهما موكب عرس أبناء الشيخ بسيارتهما.

أما في النزاعات البسيطة الخاصة بالأراضي أو ينابيع الماء وغيرها مما لا يزهق فيها النفس، وما أن يختار الطرفين الشيخ محكماً بينهما، يقوم كل منهما بتقديم شيء ثمين يعرف بـ"العدال" كضمان لتنفيذ حكم الشيخ، وغالباً ما يكون قطعة سلاح ويسلماها للشيخ، تعاد بعد التنفيذ لأصحابها.

يجمع الشيخ الطرفين في مجلسه ويسمع من كل طرف ويطلع على الوثائق ويسمع من الشهود ثم يحكم الشيخ بما يراه مناسبا وبما لا يخل بمكانته، كمحكم وسطي وبما لا يتعارض مع شرع الله ورسوله ودون اللجوء لمواد القانون أو الدستور اليمني، ولا يجوز لأحد من الطرفين الاعتراض على الحكم.

أما اذا اعتدى شخص من افراد القبيلة على آخر فإن الجاني يستوجب عليه ارضاء المجني عليه وغالباً ما يلجأ أفراد القبائل لذبح الماشية في منزل المجني عليه لمرضاته.

وتعتبر القبائل أن ذبح الماشية واسالة الدم في منزل المجني عليه "امر عظيم" وهو تعبير عن الاعتذار وطلب الصفح ولا يمكن رد الطلب حينها من المجني عليه.

ويلجأ اليمنيون للتحكيم كوسيلة سريعة في حل القضايا، وبما يساهم في حقن الدماء في قضايا القتل، ولا يلجأون للقضاء لجهة التطويل في التقاضي، واكتسب التحكيم ثقته بين أفراد المجتمع كونه كان سبباً في حل العديد من قضايا الثأر.

ففي منتصف مايو الماضي تم عن طريق التحكيم القبلي إنهاء قضية ثأر استمرت أكثر من عشرين سنة، قتل فيها أحد أبرز مشائخ محافظة البيضاء وتم التحكيم في هذه القضية بمائة قطعة سلاح كلاشينكوف وست سيارات سلمت إلى طرف أولياء الدم والذين يعتبرون هنا "محكمين"، ليتم النطق بالحكم ضد قبائل القاتل بدفع دية بمبلغ 36 مليون ريال أي ما يعادل 176000 $.

ولا يقف الامر حد التحكيم بين نزاعات وخلافات أبناء القبائل فهناك نزاعات حدثت في مؤسسات الدولة تم حلها بالتحكيم القبلي.

إذ استقبلت مدرسة عمر بن الخطاب بمحافظة منتصف يونيو 2013 وفود قبلية جاءت للتحكيم في خطأ ارتكبه احد المشايخ بحق احد معلمي المدرسة وذبح على ساحة المدرسة أمام الطلاب ثورين كإعتذار للمدرس وطلب الصفح وبدوره عفى المدرس لتنتهي القضية.

فيما عاشت محافظة حجة في مايو الماضي انطفاء مستمر للكهرباء احتجاجا على تعرض احد موظفي الكهرباء لإعتداء من شيخ كان خوفه بالجنبية وهي جزء من الزي التقليدي اليمني وتعتبر من السلاح الأبيض، وضربه في عنقه بعقبها.

ولم تنعم المدينة بالكهرباء إلا بعد أن ذُبح ثور أمام باب المؤسسة بالمحافظة بما اُعتبر اعتذار رسمي من الشيخ، يستوجب معه الصفح عنه.

وأظهرت وزارة الداخلية تأييدها للتحكيم القبلي حين قبلت يونيو الماضي التحكيم القبلي بذبح ثور بعدما اعتدى مسلحون على مكتب مدير الأمن بالتهجم على مكتبه، لرفضهم إدارته للأمن كونه لا ينتمي لحزبهم، وذُبح الثور على باب منزل مدير الأمن، ليتم الصفح عن المعتدين.

وأواخر مايو الماضي ذُبح ثلاثة ثيران لدى أفراد اللواء 102 وهو وحدة عسكرية تابعة لقوات الاحتياط  التي كانت تُعرف بقوات الحرس الجمهوري، وذلك لاسترضائهم بعد أن طردوا قائد اللواء وسيطروا على مقر القيادة  وتمكن التحكيم بالثيران من اخماد تمردهم وتعيين قائد جديد للواء.

القيادي في ثورة الشباب عبدلله بن عامر يقول:"التحكيم القبلي اقصر السبل للتحايل على القانون"

ويعتبر بن عامر استمرار العمل بالتحكيم القبلي نتيجة مخيبة لآمال شباب الثورة الذين خرجوا للتخلص من القبلية والعمل لبناء دوله مدنية تعتمد النظام والقانون، حد قوله.

ويرى مراقبين ان وجود التحكيم القبلي والحكم به في المجتمع يتنافى مع وجود مؤسسات الدولة بكامل اجهزتها ووزاراتها المختلفة.

ويبرر الدكتور فؤاد الصلاحي استاذ علم الاجتماع بجامعة صنعاء قبول الناس في المدن التي تعتبر مناطق حضرية  بالتحيكم القبلي كونه يوفر نظام أسهل من نظام القانون في اليمن الذي يجد الانسان صعوبة بالغة في تطبيقه.

ويعلق الصلاحي على قبول وتاييد وزارة الداخلية بالتحكيم بالعرف القبلي لأفرادها كونها الجهة المعنية بالضبط، بقوله:"هذا دليل واضح على ضعف الدولة، واعتراف منها بعدم قدرتها على ضبط الجناة".

وكان المركز اليمني لقياس الرأي أجرى استطلاعاً حول التحكيم القبلي ودوره في حل المشاكل نهاية 2012، وانتهت النتائج إلى أن ما نسبته 90% من القضايا والمشاكل في اليمن تحل بالتحكيم القبلي.

تم طباعة هذه الخبر من موقع سبأ أونلاين www.saba-online.com - رابط الخبر: http://saba-online.com/news5104.html